صلوا عليه وسلموا بقلوبكم فهو الحبيب وشمسه قد أشرقت
يا نور قلبى نظرة لمتيَّم يحيا بها فالروح منىَّ شُوِقت
كيف نصلى عليه؟ نَصِلُ قلوبنا بقلبه صلى الله عليه وسلم ، وحتى توصل القلوب بالحبيب لابد أن تطهر من الغير وتطيب ، كما قال الإمام أبوالعزائم رضي الله عنه:
واخلع سوانا فى الجمع طُرّاً فالخلع يهدى والجمع يُفنى
وقال أيضاً:
فاخلع سواه وكن صبابة مغرم وبعه نفسك والأموال يُعطيك
إذا كان الأنبياء والمرسلون وأولو العزم منهم كانوا يتنافسون فى حبِّ سيد الأولين والآخرين حتى ينالوا العطاءات التى يريدونها من الله ، فموسى كليم ونجيه وصفيه كان كل أمله نظرة من مولاه، إذ أخبرعنه الله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} الأعراف143
أى لن ترانى وأنت فى عالم الأشباح والأجسام والمبانى ولكن إنظر إلى الجبل ، إلى القلب الذى جعله الله محلاً للقرب والتدانى ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ فى مَكَانَهُ على حبِّ ربه وعلى حبِّ حَبيبه ولم يتغير ولم يتحول فَسَوْفَ تَرَانِي
عرف سيدنا موسى الحقيقة فطلب من الله أن يكون على طريقه صلى الله عليه وسلم حتى يتملى بشهود جمالات الله فى ذاته ، لأنه عرف أنه لن يشهد أحدٌ الله إلا فى مظهر ، إلا الحبيب الأكرم ، فطلب من الله أن يجعله يقف على طريق المظهر ليشهد هذه الجمالات والكمالات فيه:
وإنما السرُّ فى موسى يردده ليجتلى حُسن مولاه حين يشهده
ليرى أنوار الله التى تجلت فى حَبيب الله ومُصطفاه ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو شاشة الأسماء والصفات الإلهية ، لا تظهر الأسماء الإلهية والصفات الربانية إلا فى مظهر أكمل وهو الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وفيه وبه ومنه يشهد الشاهدون ويلوح جمال الله للمرادين والمطلوبين لأنه عز وجل جعله صلى الله عليه وسلم الشاشة التى يتجلى فيها للأنبياء والمرسلين والصالحين والمقربين من بدء البدء إلى نهاية النهايات
ولذا وقف موسى عليه السلام على طريق سيدنا رسول الله ويرده ليس من أجلنا فى الحقيقة- لأنه يعلم علم اليقين أن الله إذا أمرنا بأمر قوانا وأعاننا عليه ؛ فلو فرض علينا خمسين صلاة لأعاننا عليها- ولكنه يريد أن يتمتع بما كان يتمناه وهو شهود وجه الله فى حَبيب الله ومُصطفاه ، لأنه المظهر الأكمل الذى لاح فيه جمال الله لأنبياء الله ورسل الله
وحذارِ أن تعتقد أن هذا الجمال حسىٌ ، فهناك جمال روحانى وهناك جمال ربانى وهناك جمال صفاتى وهناك جمال أسمائى وهناك جمال ذاتى وهناك الجمال الحسى المشهود ، وهذا الجمال الحسى كان صلى الله عليه وسلم له فيه الغاية القصوى ، ولذلك سيدنا يوسف الذى انبهر من جماله الحسى النسوة وقطعن أيديهن أوتى نصف جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسى ، قال صلى الله عليه وسلم: {أُعطى يوسف شطر الحُسن}{1}
أى أن سيدنا يوسف أوتى نصف الجمال الحسى ومع ذلك لما رأته النسوة وكان فى يد كل واحدة تفاحة وسكين قطعن أيديهن بدلاً من التفاح عند مشاهدتهن لجمال يوسف الحسى ، فما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الروحانى؟ وما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الربانى؟ وما بالك بجمال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذاتى؟
عين الحسِّ تشهد الحسَّ ، وعين القلب تشهد أنوار حضرة الرب ، وعين الفؤاد تشهد الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم بلا بعاد ، وعين الروح تشهد الجمالات الإلهية الظاهرة فى خير البرية ، وعين النفخة القدسية تشهد الجمالات الذاتية التى اختص بها الله الحضرة المحمدية ، كلها جمالات وكلها كمالات ، وبدءها ومنتهاها العشق الكامل لهذه الذات
فلو أن إنسان أحب إنسانة ويريد أن يُظهر لها أنه متعلق بها فيبعث إليها خطابات وتحيات وينظر إليها بنظرات ويستقبلها ويودعها بابتسامات ، متى تستجيب له؟ إذا تأكدت أنه صادق فى هذا الأمر ، إحدى الصالحات ضربت مثلاً لمريد فى هذا الأمر بعد أن ادَّعى أنه يحبها ، فقالت له: أنت تحبنى أكثر أم فلانة التى وراءك؟ فالتفت خلفه ، فضربته على وجهه وقال: أنت لا تنفع لنا لأنك التفت لغيرنا:
من لفتةٍ حجبة والحجب نار لظى من فوق نار الغضى سيرى لمنان
فالذى يحب الحبيب لابد أن يعيش دوماً هايم فى جمال الحَبيب ، إذا مشى لا يوجد غيره على باله وإذا نام لا يوجد غيره فى خياله وإذا تكلم لا يسمع فى كلامه إلا نغمات كلامه ، وإذا تكلم الخلق معه لا يسمع إلا من فمه ويتلذذ بكلامه ، فيعيش كما يقولون: {كلى بكلك مشغول أيا أملى}
وهذه هى الأحوال التى بها ارتقى الصالحون والمحبون لسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ، وبلغوا المنازل العليا ، ولذا ورد أن الله تعالى: {أوحى اللـه تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى أتُريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك ، ومن وسواس قلبك إلى قلبك ، ومن روحك إلى بدنك ، ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال: نعم يا رب ، قال: فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم}{2}
جمالك فى عينى وذكرك فى فمى ونورك فى قلبى فكيف تغيب
{1} رواه أبو يعلى ، وكذا مسلم عن أنس رضي الله عنه وغيرهما
{2} تفسير البحر المديد ، وحلية الأولياء