تعرف أسرته بالأسرة الهاشمية _ نسبة إلى جدة هاشم بن عبد مناف _ وإذن فلنذكر شيئاً من أحوال هاشم ومن بعده .
1- هاشم _ هو الذي تولى السقاية والرفادة من بني عبد مناف حين تصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسام المناصب فيما بينهما ، وهاشم كان اسمه موسراً ذا شرف كبير ، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة ، وكان اسمه عمرو فما سمي هاشماً إلا لهشمة الخبز، وهو أول من سن الرحلتين لقريش ، رحلة الشتاء والصيف ، وفيه يقول الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه قوم بـمكة مسنتين عجـاف
سنت إليه الرحـلتان كـلاهما سفر الشتاء ورحلة الأصياف
ومن حديثه أنه خرج إلى الشام تاجراً ، فلما قدم المدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وأقام عندها ، ثم خرج إلى الشام _ وهي عند أهلها قد حملت بعبد المطلب_ فمات هاشم بغزة من أرض فلسطين ، وولدت امرأته سلمى عبد المطلب سنة 497م ، وسمته شيبة لشيبة كانت في رأسة وجعلت تربيه في بيت أبيها في يثرب ، ولم يشعر به أحد من أسرته بمكة وكان لهاشم أربعة بنين وهم : أسد، وأبو صيفي، ونضلة، وعبد المطلب. وخمس بنات وهي : الشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية ، وجنة.
2- عبد المطلب _ قد علمنا مما سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إلى أخيه المطلب بن عبد مناف ( وكان شريفاً مطاعاً ذا فضل في قومه ، كانت قريش تسميه الفياض لسخائه ) ولما صار شيبة _ عبد المطلب _ وصيفاً أو فوق ذلك سمع به المطلب فرحل في طلبه ، فلما رآه فاضت عيناه ، وضمه ، وأردفه على راحلته ، فامتنع حتى تأذن له أمه ، فسألها المطلب أن ترسله معه ، فامتنعت فقال : إنما يمضي ألى ملك أبية ، وإلى حرم الله ،17- فأذنت له ،18- فقدم به مكه مردفه على بعيره فقال الناس : هذا عبد المطلب ،19- فقال ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم .. فأقام عنده حتى ترعرع ،20- ثم إن المطلب هلك بردمان من أرض اليمن ،21- فولي بعد عبد المطلب ،22- فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم ،23- وشرف في قومه شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه وأحبه قومه ،24- وعظم خطره فيهم .
ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح عبد المطلب فغصبه إياها فسأل رجالاً من قريش النصرة على عمه، فقالوا لا ندخل بينك وبين عمك . فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتاً يستنجدهم ، وسار خاله أبو سعد بن عدي في ثمانين راكباً حتى نزل بالأبطح من مكة ، فتلقاه عبد المطلب ، فقال : المنزل يا خال !
فقال : لا والله حتى ألقى نوفلا ، ثم أقبل فوقف نوفل ، وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش ، فسل أبو سعد سيفه وقال : ورب البيت لئن لم ترد على ابن أختي ت أركاحه لأمكنن منك هذا السيف ، فقال : رددتها عليه ، فأشهد عليه مشايخ قريش ، ثم نزل عبد المطلب ، فأقام عنده ثلاثاً ، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة ، فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم ، ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا : نحن ولدناه كما ولدتموه ، فنحن أحق بنصره _ وذلك أن أم عبد مناف منهم _ فدخلوا دار الندوة ، وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس ونوفل ، وهذا الحلف الذي صار سبباً لفتح مكة كما سيأتي .
ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان : حفر بئر زمزم ووقعة الفيل ، وخلاصة الأول أنه أمر في المنام بحفر زمزم ووصف له موضعها ، فقام يحفر ، فوجد فيه الأشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلاء ، أي السيوف والدروع والغزالين من الذهب ، فضرب الأسياف باباً للكعبة ، وضرب في الباب الغزالين وأقام سقاية زمزم للحجاج .
ولما بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد المطلب ، وقالوا له : أشركنا قال ما أنا بفاعل هذا أمر خصصت به ، فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد ولم يرجعوا حتى أراهم الله في الطريق ما دلهم على تخصيص عبد المطلب بزمزم ، وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء ، وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة .
وخلاصة الثاني أن أبرهة الصباح الحبشي ، النائب العام عن النجاشي على اليمن لما رأى العرب يحجون الكعبة بني كنيسة كبيرة بصنعاء وأراد أن يصرف حج العرب إليها وسمع بذلك رجل من بني كنانة فدخلها ليلاً فلطخ قبلتها بالعذرة ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظة وسار بجيش عرمرم عدده ستون ألف جندي _ إلى الكعبة ليهدمها واختار لنفسه فيلاً من أكبر الفيلة وكان الجيـــش ( 9 فيلة أو 13 فيلاً ) وواصل سيره حتى بلغ المغمس وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله وتهيأ لدخول مكة فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل ولم يقم ليقدم إلى الكعبة وكانوا كلما وجهوه الى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقول يهرول ، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك فبينا هم كذلك إذ أرسل الله عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر ثلاثة أحجار ، حجر في منقارة ، وحجران في رجليه أمثال الحمص ، لا تصيب منهم أحداً إلا صار تتقطع أعضاؤه وهلك ، وليس كلهم أصابت ، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل بطريق وهلكوا على كل منهل وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك .
وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب وتحرزوا في رؤوس الجبال خوفاً على أنفسهم من معرة الجيش فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين ،وكانت هذه الوقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي بخمسين يوماً أو بخمسة وخمسي يوماً _ عند الأكثر _ وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائل مارس سنة 571م وكانت تقدمة قدمها الله لنبية وبيته ، لأنا حين ننظر إلى بيت المقدس نرى أن المشركين من أعداء الله تسلطوا على هذه القبلة ، وأهلها مسلمون كما وقع لبختنصر سنة 587ق.م والرومان سنة 70م ، ولكن الكعبة لم يسيطر عليها النصارى _ وهم مسلمون إذ ذاك _ مع أن أهلها كانوا مشركين .
وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبأها إلى معظم المعمورة المتحضرة إذ ذاك ، فالحبشة كانت لها صلة بالرومان ، والفرس لا يزالون لهم بالمرصاد ، يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم ، ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة ، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر .فهذه الوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيت الله ، وأنه هو الذي اصطفاه الله للتقديس ، فإذن لو قام أحد من أهله بدعوى النبوة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه الوقعة وكان تفسيراً للحكمة الخفية التي كانت في نصرة الله المشركين ضد أهل الإيمان بطريق يفوق عالم الأسباب . وكان لعبد المطلب عشرة بنين وهم : الحارث والزبير وأبو طالب ، وعبد الله ، وحمزة ، وأبو لهب ، والغيداق ، والمقوم ، وصفار، والعباس ، وقيل : كانوا أحد عشر فزادوا ولداً اسمه قثم ، وقيل كانوا ثلاثة عشر، فزادوا عبد الكعبة وحجلا ، وقيل إن عبد الكعبة هو المقوم ، وحجلا هو الغيداق ولم يكن من أولاده رجله اسمه قثم ، وأما البنات فست وهن :أم الحكيم _ وهي البيضاء _ وبرة وعاتكة وصفية وأروى وأميمة .
3- عبد الله والد النبي _ أمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم بن يقظة بن مرة ، وكان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وأحبهم إليه وهو الذبيح ، وذلك أن عبد المطلب تم أبناؤه عشرة ، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه ، فكتب أسماءهم في القداح ، وأعطاهم قيم هبل ، فضرب القداح فخرج القدح على عبد الله ، فأخذه عبد المطلب ، وأخذ الشفرة ، ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحة ، فمنعته قريش ولاسيما أخواله من بني مخزوم وأخوه أبو طالب ، فقال عبد المطلب : فكيف أصنع بنذري فأشاروا عليه أن يأتي عرافة فيستأمرها ، فأتاها ، فأمرت أن يضرب القداح على عبد الله وعلى عشر من الإبل ، فإن خرجت على عبد الله يزيد عشراً من الإبل حتى يرضي ربه فإن خرجت على الإبل نحرها ، فرجع وأقرع بين عبد الله وبين عشر من الإبل فوقعت القرعة على عبد الله فلم يزل يزيد من الإبل عشراً عشراً ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعت القرعة عليها ، فنحرت عنه ، ثم تركها عبد المطلب لايرد عنها انساناً ولا سبعاً وكانت الدية في قريش وفي العرب عشراً من الإبل فجرت بعد هذه الوقعة مائة من الإبل وأقرها الإسلام وروي عن النبي أنه قال أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل وأباه عبد الله .
وأختار عبد المطلب لولده عبد الله آمنه بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً ، وأبوها سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، فبنى بها عبد الله في مكة ، وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يمتار لهم تمراً فمات بها ، وقيل : بل خرج تاجراً غلى الشام ، فأقبل في عير قريش ، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها ، ودفن في دار النابغة الجعدي ، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنه وكانت وفاته قبل أن يولد وبه يقول أكثر المؤرخين ، وقيل : بل توفي بعد مولده بشهرين .. ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنه بأروع المراثي ، قالت :
عفا جانب البطحاء من ابن هاشم
وجـاور لـحداً خارجاً في الغماغم
دعته المـنايا دعـوة فأجـابهـا وماتركت في الناس مثل ابن هاشم
عشيـة راحـوا يحـملون سريره تعاوزه أصحابه في التزاحــــم
فإن تك غالتـه المنـايا وريبـها فقد كـان معطاء كثير التـراحـم
وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال ، وقطعة غنم وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن ، وهي حاضنة رسول الله.