......
التبيـان في آداب حملة القرآن
للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي
[b]خطبة الكتابقال الشيخ الفقيه الإمام العالم الورع الزاهد الضابط المتقن أبو زكريا يحيى محي الدين بن شرف بن حزام النووي رحمه الله تعالى: الحمد لله الكريم المنان ذي الطول والفضل والإحسان ، الذي هدانا للإيمان وفضل ديننا على سائر الأديان ، بارساله إلينا أكرم خلقه عليه وأفضلهم لديه حبيبه وخليله وعبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فمحا به عبادة الأوثان ، أكرمه صلى الله عليه وسلم بالقرآن المعجزة المستمرة على تعاقب الأزمان ، التي يتحدى بها الإنس والجان بأجمعهم ، وأفحم بها جميع أهل الزيغ والطغيان ، وجعله ربيعا لقلوب أهل البصائر والعرفان ، لا يخلق على كثرة التردد وتغاير الأحيان ، ويسره للذكر حتى استظهره صغار الولدان ، وضمن حفظه من تطرق التغير إليه والحدثان ، وهو محفوظ بحمد الله وفضله ما اختلف الملوان ، ووفق للاعتناء بعلومه من اصطفاه من أهل الحذق والإتقان ، فجمعوا فيها من كل فن ما ينشرح له صدر أهل الإيقان ، أحمده على ذلك وغيره من نعمه التي لا تحصى خصوصا على نعمة الإيمان ، وأسأله المنة علي وعلى سائر أحبائي وسائر المسلمين بالرضوان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة محصلة للغفران منقذة صاحبها من النيران ، موصلة له إلى سكنى الجنان. أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى من على هذه الأمة ـ زادها الله تعالى شرفا ـ بالدين الذي ارتضاه دين الإسلام ، وأرسل إليها محمدا خير الأنام ، عليه منه أفضل الصلاة والبركات السلام ، وأكرمها بكتابه أفضل الكلام ، وجمع فيه سبحانه وتعالى جميع ما يحتاج إليه من أخبار الأولين ولآخرين والمواعظ والأمثال والآداب وضروب الأحكام ، والحجج القاطعات الظاهرات في الدلالة على وحدانيته وغير ذلك مما جاءت به رسله صلوات الله عليهم وسلامه الدامغات لأهل الإلحاد الضلال الطغام وضاعف الأجر في تلاوته وأمرنا بالاعتناء به والإعظام ، وملازمة الآداب معه وبذل الوسع في الاحترام ، وقد صنف في فضل تلاوته جماعة من الأوائل والأعلام كتبا معروفة عند أولي النهي والأحلام ، لكن ضعفت الهمم عن حفظها ، بل عن مطالعتها ، فصار لا ينتفع بها إلا أفراد من أولي الإفهام ، ورأيت أهل بلدتنا دمشق حماها الله تعالى وصانها وسائر بلاد الإسلام ، مكثرين من الاعتناء بتلاوة القرآن العزيز تعلما وتعليما وعرضا ودراسة في جماعات وفرادى ، مجتهدين في ذلك بالليالي والأيام ، زادهم الله حرصا عليه وعلى جميع أنواع الطاعات مريدين وجه الله ذي الجلال والإكرام ، فدعاني ذلك إلى جمع مختصر في آداب حملته وأوصاف حفاظه وطلبته ، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى النصح لكتابه ، ومن النصيحة له بيان آداب حملته وطلابه وإرشادهم إليها وتنبيههم عليها ، وأوثر فيه اختصار وأحاذر التطويل والإكثار ، وأقتصر في كل باب في طرف من أطرافه ، وأرمز من كل ضرب من آدابه إلى بعض أصنافه ، فلذلك أكثر ما أذكره بحذف أسانيده. وإن كانت أسانيده بحمد الله عندي من الحاضرة العتيدة ، فإن مقصودي التنبيه على أصل ذلك والإشارة بما أذكره إلى ما حذفته مما هنالك. والسبب في إيثار اختصاره إيثاري حفظه وكثرة الانتفاع به وانتشاره. ثم ما وقع من غريب الأسماء واللغات في الأبواب أفرده بالشرح والضبط الوجيز الواضح على ترتيب وقوعه في باب في آخر الكتاب ليكمل انتفاع صاحبه ، ويزول الشك عن طالبه ، ويندرج في ضمن ذلك وفي خلال الأبواب جمل من القواعد ، ونفائس من مهمات الفوائد ، وأبين الأحاديث الصحيحة والضعيفة مضافات إلى من رواها من الأئمة الأثبات. وقد ذهلوا عن نادر من ذلك في بعض الحالات. وأعلم أن العلماء من أهل الحديث وغيرهم جوزوا العمل بالضعيف في فضائل الأعمال ، ومع هذا فإني أقتصر على الصحيح فلا أذكر الضعيف إلا في بعض الأحوال وعلى الله الكريم توكلي واعتمادي وإليه تفويضي واستنادي ، وأسأله سلوك سبيل الرشاد والعصمة من أهل الزيغ والعناد ، والدوام على ذلك وغيره من الخير في ازدياد ، وأبتهل إليه سبحانه أن يهديني بحسن النيات ، وييسر لي جميع أنواع الخيرات ، ويعينني على أنواع المكرمات ، ويديمني على ذلك حتى الممات ، وأن يفعل ذلك كله بجميع أحبابي وسائر المسلمين والمسلمات ، وحسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويشتمل هذا الكتاب على عشرة أبواب:
الباب الأول: في أطراف من فضيلة تلاوة القرآن وحملته.
الباب الثاني: في ترجيح القرآن والقارئ على غيرهما.
الباب الثالث: في إكرام أهل القرآن والنهي عن أذاهم.
الباب الرابع: في آداب حامل القرآن ومتعلمه.
الباب الخامس: في آداب حامل القرآن.
الباب السادس: في آداب القرآن وهو معظم الكتاب ومقصوده.
الباب السابع: في آداب الناس كلهم مع القرآن.
الباب الثامن: في الآيات والسور المستحبة في أوقات وأحوال مخصوصة.
الباب التاسع: في كتابة القرآن وإكرام المصحف.
الباب العشر: في ضبط ألفاظ هذا الكتاب.
الباب الأول: في أطراف من فضيلة تلاوة القرآن وحملته قال الله عز وجل: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور} وروينا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم من تعلم القرآن وعلمه رواه أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري في صحيحه الذي هو أصح الكتب بعد القرآن ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مر السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران رواه البخاري و أبو الحسين مسلم القشيري النيسابوري في صحيحهما ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر رواه البخاري و مسلم. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يرفع بهذا الكلام أقواما ويضع به آخرين رواه مسلم.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه رواه مسلم ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل آناء النهار ، ورجل آتاه الله ملا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار رواه البخاري و مسلم وروينا أيضا من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يلفظ لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله ملا فسلطه على هلكته في الحق وجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ألام حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف رواه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله سبحانه وتعالى: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، وفضل كلام الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه رواه الترمذي وقال حديث حسن. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الذي ليس في جوفه شئ من القرآن كالبيت الخرب رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها رواه أبو داود و الترمذي و النسائي ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس الله والديه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا فما ظنكم بالذي عمل بهذا رواه أبو داود. وروى الدارمي باسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقرؤوا القرآن فإن الله تعالى لا يعذب قلبا وعى القرآن ، وإن هذا القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو آمن ، ومن أحب القرآن فليبشر. وعن الحميدي الجمالي قال: سألت سفيان الثوري عن الرجل يغزو أحب إليك أو يقرأ القرآن؟ فقال يقرأ القرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
الباب الثاني: في ترجيح القراءة والقارئ على غيرهاثبت عن ابن مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى رواه مسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولا وشبابا) رواه البخاري في صحيحه ، وسيأتي في الباب بعد هذا أحاديث تدخل في هذا الباب ، واعلم المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرها من الأذكار ، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك والله أعلم.
الباب الثالث: في إكرام أهل القرآن والنهي عن أذاهمقال الله عز وجل: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} وقال الله تعالى: {ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} وقال تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وقال تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} وفي الباب حيث أبي مسعود الأنصاري وحديث ابن عباس المتقدمان في الباب الثاني ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط رواه أبو داود ، وهو حديث حسن ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم رواه أبو داود في سننه و البزار في مسنده. قال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: هو حديث صحيح ، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد رواه البخاري ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قال: من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب رواه البخاري ، وثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته وعن الإمامين الجليلين أبي حنيفة و الشافعي رضي الله عنهما قالا: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي. قال الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته ، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاء الله تعالى قبل موته بموت القلب فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
الباب الرابع: في آداب معلم القرآن ومتعلمه ، وفيه فصولهذا الباب مع البابين بعده هو مقصود الكتاب ، وهو طويل منتشر جدا فإني أشير إلى مقاصده مختصرة في فصول ليسهل حفظه وضبطه إن شاء الله تعالى.
(فصل) أول ما ينبغي للمقرئ والقارئ أن يقصدا بذلك رضا الله تعالى ، قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} أي الملة المستقيمة ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى وهذا الحديث من أصول الإسلام ، وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما يعطى الرجل على قدر نيته ، وعن غيره إنما يعطى الناس على قدر نياتهم ، وروينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى قال: الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد ، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع المخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس أو محبة أو مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى. قال ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين وعن حذيفة المرعشي رحمه الله تعالى: الإخلاص استواء أفعال العبد في الظاهر والباطن ، وعن ذي النون رحمه الله تعالى قال: ثلاث من علامات الإخلاص استواء المدح والذم من العامة ، ونسيان رؤية العمل في الأعمال واقتضاء ثواب الأعمال في الآخرة. وعن الفضيل بن عياض رضي الله عنه قال: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما ، وعن سهل التستري رحمه الله تعالى قال: نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء لا نفس ولا هوى ولا دنيا. وعن السري رضي الله عنه قال: لا تعمل للناس شيئا ، ولا تترك لهم شيئا ، ولا تغط لهم شيئا ، ولا تكشف لهم شيئا. وعن القشيري قال: أفضل الصدق استواء السر والعلانية ، وعن الحارث المحاسبي رحمه الله قال: الصادق هو الذي لا يبالي ، ولو خرج عن كل قدر له في قلوب الخلائق من أجل صلاح قلبه ، ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله ، فإن كرامته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم ، وليس هذا من أخلاق الصديقين ، وعن غيره إذا طلبت الله تعالى بالصدق أعطاك الله مرآة تبصر فيها كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة وأقاويل السلف في هذا كثيرة أشرنا إلى هذه الأحرف منها تنبيها على المطلوب ، وقد ذكرت جملا من ذلك مع شرحها في أول شرح المهذب وضممت إليها من آداب العالم والمتعلم والفقيه والمتفقه ما لا يستغني عنه طالب العلم ، والله أعلم.
(فصل) وينبغي أن لا يقصد به توصلا إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع على أقرانه أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك ، ولا يشوب عند المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالا أو خدمة ، وإن قل ولو كان على صورة الهدية التي لو لا قراءته عليه لما أهداها إليه ، قال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} الآية ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما يبتغي به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. رواه أبو داود بإسناد صحيح ، ومثله أحاديث كثيرة ، وعن أنس و حذيفة و كعب بن مالك رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار رواه الترمذي من رواية كعب بن مالك ، وقال أدخله النار.
(فصل) وليحذر كل الحذر من قصده التكثر بكثرة المشتغلين عليه والمختلفين إليه ، وليحذر من كراهته قراءة أصحابه على غيره ممن ينتفع به ، وهذه مصيبة يبتلى بها بعض المعلمين الجاهلين ، وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته وفساد طويته بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته بتعليمه وجه الله تعالى الكريم ، فإنه لو أراد الله بتعليمه لما كره ذلك ، بل قال لنفسه أنا أردت الطاعة بتعليمه ، وقد حصلت ، وقد قصد بقراءته على غيري زيادة علم ، فلا عتب عليه ، وقد روينا في مسند الإمام المجمع على إمامته وحفظه وإمامته أبي محمد الدارمي رحمة الله عليه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال يا حملة القرآن أو قال (يا حملة العلم اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله ، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف عملهم علمهم ، وتخالف سريرتهم علانيتهم يجلسون حلقا يباهي بعضهم بعضا حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه. أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى) ، وقد صح عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم يعني علمه وكتبه أن لا ينسب إلي حرف منه.
(فصل) وينبغي للمعلم أن يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها والخصال الحميدة والشيم المرضية التي أرشده الله إليها من الزهادة في الدنيا والتقلل منها ، وعدم المبالاة بها وبأهلها ، والسخاء والجود ومكارم الخلاق ، وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة والحلم والصبر والتنزه عن دنيء المكاسب وملازمة الورع والخشوع والسكينة والوقار والتواضع والخضوع ، واجتناب الضحك ، والإكثار من المزاح ، وملازمة الوظائف الرعية كالتنظيف بإزالة الأوساخ والشعور التي ورد الشرع بإزالتها ، كقص الشارب وتقليم الظفر وتسريح اللحية وإزالة الروائح الكريهة والملابس المكروهة ، وليحذر كل الحذر من الحسد والرياء والعجب واحتقار غيره ، وإن كان دونه ، وينبغي أن يستعمل الأحاديث الواردة في التسبيح والتهليل ، ونحوهما من الأذكار والدعوات ، وأن يراقب الله تعالى في سره وعلانيته ، ويحافظ على ذلك ، وأن يكون تعويله في جميع أموره على الله تعالى.
(فصل) وينبغي له أن يرفق بمن يقرأ عليه ، وأن يرحب به ويحسن إليه بحسب حاله ، فقد روينا عن أبي هرون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فيقول: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس لكم تبع وإن رجلا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا رواه الترمذي و ابن ماجه وغيرهما ، وروينا نحو في مسند الدارمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
(فصل) وينبغي أن يبذل لهم النصيحة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم رواه مسلم ، ومن النصيحة لله تعالى ولكتابه إكرام قارئه وطالبه ، وإرشاده إلى مصلحته والرفق به ومساعدته على طلبه بما أمكن ، وتأليف قلب الطالب ، وأن يكون سمحا بتعليمه في رفق ، متلطفا به ومحرضا له على التعلم ، وينبغي أن يذكره فضيلة ذلك ليكون سببا في نشاطه وزيادة في رغبته ، ويزهده في الدنيا ، ويصرفه عن الركون إليها والإغترار بها ، ويذكره فضيلة الاشتغال بالقرآن وسائر العلوم الشرعية ، وهو طريق الحارضين والعارفين وعباد الله الصالحين ، وأن ذلك رتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وينبغي أن يشفق على الطالب ، ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح ولده ومصالح نفسه ، ويجري المتعلم مجرى ولده في الشفقة عليه ، والصبر على جفائه وسوء أدبه ، ويعذره في قلة أدبه في بعض الأحيان ، فإن الإنسان معرض للنقائص ، لاسيما إن كان صغير السن. وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير ، وأن يكره له ما يكره لنفسه من النقص مطلقا، فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: أكرم الناس على جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إلي ، لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت ، وفي رواية: إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني. فقد جاء أن لا يتعاظم على المتعلمين ، بل يلين لهم ويتواضع معهم فقد جاء في التواضع لآحاد الناس أشياء كثيرة معروفة ، مكيف بهؤلاء الذين هم بمنزلة أولاده مع ما هم عليه من الاشتغال بالقرآن ومع ما لهم عليه من حق الصحبة وترددهم إليه ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه وعن أبي أيوب السختياني رحمه الله ، قال: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعا لله عز وجل.
(فصل) وينبغي أن يؤدب المتعلم على التدريج بالآداب السنية ، والشيم المرضية ، ورياضة نفسه بالدقائق بالخفية ، ويعوده الصيانة في جميع أموره الباطنة والجلية ، ويحرضه بأقواله وأفعاله المتكررات على الإخلاص والصدق وحسن النيات ، ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات ، ويعرفه أن لذلك تنفتح عليه أنوار المعارف ، وينشرح صدره ، ويتفجر من قلبه ينابيع الحكم واللطائف ، ويبارك له في علمه وحاله ، ويوفق في أفعاله وأقواله.
(فصل) تعليم المتعلمين فرض كفاية ، فإن لم يكن من يصلح إلا واحد تعين ، وإن كان هناك جماعة يحصل التعليم ببعضهم فإن امتنعوا كلهم أثموا ، وإن قام به بعضهم سقط الحرج عن الباقين ، وإن طلب من أحدهم وامتنع فأظهر الوجهين أنه لا يأثم لكن يكره له ذلك إن لم يكن عذر.
(فصل) يستحب للمعلم أن يكون حريصا على تعليمهم ، مؤثرا ذلك على مصالح نفسه الدنيوية التي ليست بضرورية ، وأن يفرغ قلبه في حال جلوسه لإقرائهم من الأسباب الشاغلة كلها ، وهي كثيرة معروفة ، وأن يكون حريصا على تفهيمهم ، وأن يعطي كل إنسان منهم ما يليق به ، فلا يكثر على من لا يحتمل الإكثار ، ولا يقصر لمن يحتمل الزيادة ، ويأخذهم بإعادة محفوظاتهم ، ويثني على من ظهرت نجابته ما لم يخش عليه فتنة بإعجاب أو غيره ، ومن قصر عنفه تعنيفا لطيفا ما لم يخش عليه تنفيره ، ولا يحسد أحدا منهم لبراعة تظهر منه ، ولا يستكثر فيه ما أنعم الله به عليه ، فإن الحسد للأجانب حرام شديد التحريم ، فكيف للمتعلم الذي هو بمنزلة الولد ويعود من فضيلته إلى معلمه في الآخرة الثواب الجزيل ، وفي الدنيا الثناء الجميل ، والله الموفق.
(فصل) ويقدم في تعليمهم إذا ازدحموا الأول فالأول ، فإن رضي الأول بتقديم غيره قدمه. وينبغي أن يظهر لهم البشر وطلاقة الوجه ، ويتفقد أحوالهم ، ويسأل عمن غاب منهم.
(فصل) قال العلماء رضي الله عنهم ولا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية. فقد قال سفيان وغيره طلبهم للعلم نية. وقالوا طلبنا العلم لغير الله فأبى أن إلا لله ، معناه كانت غايته أن صار لله تعالى.
(فصل) ومن آدابه المتأكدة وما يعتنى به أن يصون يديه في حال الإقراء عن العبث وعينيه عن تفريق نظرهما من غير حاجة ويقعده على طهارة مستقبل القبلة ويجلس بوقار وتكون ثيابه بيضا نظيفة ، وإذا وصل إلى موضع جلوسه صلى ركعتين قبل الجلوس ، سواء كان الموضع مسجدا أو غيره ، فإن كان مسجدا كان آكد فإنه يكره الجلوس فيه قبل أن يصلي ركعتين ، ويجلس متربعا إن شاء أو غير متربع ، روى أبو بكر بن أبي داود السجستاني باسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقرئ الناس في المسجد جاثيا على ركبتيه.
(فصل) ومن آدابه المتأكدة وما يعتني بحفظه أن لا يذل العلم فيذهب إلى مكان ينسب إلى من يتعلم منه فيه وأن كان المتعلم خليفة فمن دونه بل يصون العلم عن ذلك كما صانه عنه السلف رضي الله عنهم ، وحكاياتهم في هذا كثيرة مشهورة.
(فصل) في آداب المتعلم: جميع ما ذكرناه من آداب المعلم في نفسه آداب للمتعلم ، ومن آدابه أن يجتنب الأسباب الشاغلة عن التحصيل إلا سببا لا بد منه للحاجة ، وينبغي أن يطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول القرآن وحفظه واستثماره ، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فصد الجسد كله ، ألا وهي القلب وقد أحسن القائل بقوله: يطيب القلب للعلم كما تطيب الأرض للزراعة ، وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويتأدب معه وأن كان أصغر منه سنا وأقل شهرة ونسبا وصلاحا وغير ذلك ، ويتواضع للعلم فبتواضعه يدركه وقد قالوا نظما: العلم حرب للفتى والمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي وينبغي أن ينقاد لمعلمه ويشاوره في أموره ويقبل قوله كالمريض العاقل يقبل قول الطبيب الناصح الحاذق. وهذا أولى.
(فصل) ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته ، وظهرت ديانته وتحققت معرفته ، واشتهرت صيانته ، فقد قال محمد بن سيرين و ومالك بن أنس وغيرهما من السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ، وعليه أن ينظر معلمه بعين الاحترام ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على طبقته فإنه أقرب إلى انتفاعه به ، وكان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه مني. وقال الربيع صاحب الشافعي رحمهما الله: ما اجترأت أن أشرب الماء و الشافعي ينظر إلي هيبة له ، وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حق المعلم عليك أن تسلم على الناس عامة وتخصه دونهم بتحية ، وأن تجلس أمامه ، ولا تشيرن عنده بيدك ولا تغمزن بعينيك ، ولا تقولن قال فلان خلاف ما تقول ، ولا تغتابن عنده أحدا ، ولا تشاور جليسك في مجلسه ، ولا تأخذ بثوبه إذا قام ، ولا تلح عليه إذا كسل ، ولا تعرض أي تشبع من طول صحبته ، وينبغي أن يتأدب بهذه الخصال التي أرشد إليها علي كرم الله وجهه ، وأن يرد غيبة شيخه إن قدر فإن تعذر عليه ردها فارق ذلك المجلس.
(فصل) ويدخل على الشيخ كامل الخصال متصفا بما ذكرناه في المعلم متطهرا مستعملا للسواك فارغ من الأمور الشاغلة وأن لا يخل بغير استئذان إذا كان الشيخ في مكان يحتاج فيه إلى استئذان ، وأن يسلم على الحاضرين إذا دخل ويخصه دونهم بالتحية ، وأن يسلم عليه وعليهم إذا انصرف كما جاء في الحديث ، فليست الأولى أحق من الثانية ، ولا يتخطى رقاب الناس بل يجلس حيث ينتهي به المجلس إلا أن يأذن له الشيخ في التقدم أو يعلم من حالهم إيثار ذلك ، ولا يقيم أحدا من موضعه. فإن آثره غيره لم يقبل اقتداء بابن عمر رضي الله عنهما إلا أن يكون في تقديمه مصلحة للحاضرين أو أمره الشيخ بذلك ، ولا يجلس في وسط الحلقة إلا لضرورة ، ولا يجلس بين صاحبين بغير إذنهما وإن فسحا له قعد وضم نفسه.
(فصل) وينبغي أيضا أن يتأدب مع رفقته وحاضري مجلس الشيخ. فإن ذلك تأدب مر الشيخ وصيانة لمجلسه ، ويقعد بين يدي الشيخ قعدة المتعلمين لا قعدة المعلمين ، ولا يرفع صوته رفعا بليغا من غير حاجة ، ولا يضحك ، ولا يكثر الكلام من غير حاجة ، ولا يعبث بيده ولا بغيرها ، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا من غير حاجة بل يكون متوجها إلى الشيخ مصغيا إلى كلامه.
(فصل) ومما يتأكد الاعتناء به أن لا يقرأ على الشيخ في حال شغل قلب الشيخ وملله واستيفازه وروعه وغمه وفرحه وعطشه ونعاسه وقلقه ونحو ذلك مما يشق عليه أو يمنعه من كمال حضور القلب والنشاط ، وأن يغتنم أوقات نشاطه ، ومن آدابه أن يتحمل جفوة الشيخ وسوء خلقه ولا يصده ذلك عن ملازمته واعتقاد كماله ، ويتأول لأفعاله وأقواله التي ظاهرها الفساد تأويلات صحيحة فما يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق أو عديم ، وأن جفاه الشيخ ابتدأ هو بالاعتذار إلى الشيخ وأظهر أن الذنب له والعتب عليه فذلك أنفع له في الدنيا والآخرة وأنفى لقلب الشيخ ، وقد قالوا: من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة ، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الاخرة والدنيا ، ومنه الأثر المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما: ذللت طالبا فعززت مطلوبا ، وقد أحسن من قال:
من لم يذق طعم المذلة ساعة قطع الزمان بأسره مذلولا(فصل) ومن آدابه المتأكدة أن يكون حريصا على التعلم مواظبا عليه في جميع الأوقات التي يتمكن منه فيها ولا يقنع بالقليل مع تمكنه من الكثير ، و لا يحمل نفسه ما لا يطيق مخافة من الملل وضياع ما حصل. وهذا يختلف باختلاف الناس والأحوال ، وإذا جاء إلى مجلس الشيخ فلم يجده انتظر ولازم بابه ، ولا يفوت وظيفته إلا أن يخاف كراهة الشيخ لذلك بأن يعلم من حاله الإقراء في وقت بعينه ، وأنه لا يقرئ في غيره ، وإذا وجد الشيخ نائما أو مشتغلا بمهم لم يستأذن عليه بل يصبر إلى استيقاظه أو فراغه أو ينصرف ، والصبر أولى كما كان ابن عباس رضي الله عنهما وغيره يفعلون ، وينبغي أن يأخذ نفسه بالإجتهاد في التحصيل في وقت الفراغ والنشاط وقوة البدن ونباهة الخاطر وقلة الشاغلات قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة ، فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا: معناه اجتهدوا في كمال أهليتكم وأنتم أتباع قبل أن تصيروا سادة ، فإنكم إذا صرتم سادة متبوعين امتنعتم من التعلم لارتفاع منزلتكم وكثرة شغلكم وهذا معنى قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: تفقه قبل أن ترأس. فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه.
(فصل) وينبغي أن يبكر بقراءته على الشيخ أول النهار لحديث النبي صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لأمتي في بكورها وينبغي أن يحافظ على قراءة محفوظه ، وينبغي أن لا يؤثر بنوبته غيره. فإن الإيثار مكروه في القرب بخلاف الإيثار بحظوظ النفس فإنه محبوب ، فإن رأى الشيخ المصلحة في الإيثار في بعض الأوقات لمعنى شرعي فأشار عليه بذلك امتثل أمره ، ومما يجب عليه ويتأكد الوصية به أن لا يحسد أحدا من رفقته أو غيرهم على فضيلة رزقه الله إياها ، وأن لا يعجب بنفسه بما خصه الله ، وقد قدمنا ايضاح هذا في آداب الشيخ ، وطريقه في نفي العجب أن يذكر نفسه أنه لم يحصل ما حصله بحوله وقوته ، وإنما هو فضل من الله ، ولا ينبغي أن يعجب بشيء لم يخترعه بل أودعه الله تعالى فيه ، وطريقه في نفي الحسد أن يعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت جعل هذه الفضيلة في هذا ، فينبغي أن لا يعترض عليها ولا يكره حكمة أرادها الله تعالى ولم يكرها.
الباب الخامس: في آداب حامل القرآن ، وفيه فصولقد تقدم حمل منه في الباب الذي قبل هذا ، ومن آدابه أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل ، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالا للقرآن ، وأن يكون مصونا عن دنيء الإكتساب شريف النفس مترفع على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا ، متواضعا للصالحين وأهل الخير والمساكين ، وأن يكون متخشعا ذا سكينة ووقار ، وفقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق فاستبقوا الخيرات لا تكونوا عيالا على الناس ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس مفطرون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وتفقدونها في النهار. وعن الفضيل بن عياض قال: ينبغي لحامل القرآن أ لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم ، وعنه أيضا قال: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلو هو ، ولا يسهو مع من يسهو ، ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن.
(فصل) ومن أهم ما يؤثر به أن يحذر كل الحذر من اتخاذ القرآن معيشة يكتسب بها ، فقد جاء عن عبد الرحمن بن شبيل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤوا القرآن ، ولا تأكلوا به ولا تجفوا عنه ، ولا تغلوا فيه وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم اقرؤوا القرآن من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ، ولا يتأجلونه رواه بمعناه من رواية سهل بن سعد: معناه يتعجلون أجره إما بمال وإما سمعة ونحوها ، وعن فضيل بن عمرو رضي الله عنه قال: دخل رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدا فلما سلم الإمام قام رجل فتلا آيات من القرآن ثم سأل فقال أحدهما: إنا لله وإنا إليه راجعون سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيجيء قوم يسألون بالقرآن فمن سأل بالقرآن فلا تعطوه وهذا الإسناد منقطع ، فإن الفضيل بن عمرو لم يسمع الصحابة. وأما أخذه الأجرة على تعليم القرآن فقد اختلف العلماء فيه ، فحكى الإمام أبو سليمان الخطابي منع أخذ الأجرة عليه عن جماعة من العلماء منهم الزهرى و أبو حنيفة ، وعن جماعة أنه يجوز إن لم يشترطه ، وهو قول الحسن البصرى و الشعبي و ابن سيرين وذهب عطاء و مالك و الشافعي وآخرون إلى جوازها إن شارطه واستأجره إجارة صحيحة ، وقد جاء بالجواز الأحاديث الصحيحة ، واحتج من منعها بحديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة القرآن فأهدى له قوسا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أن تطوق بها طوقامن نار فاقبلها وهو حديث مشهور رواه أبو داود و وغيره وبآثار كثيرة عن السلف. وأجاب المجوزون عن حديث عبادة بجوابين: أحدهما أن في إسناده مقالا. والثاني أنه كان تبرع بتعليمه فلم يستحق شيئا. ثم أهدي إليه على سبيل العوض فلم يجز له الأخذ بخلاف من يعقد معه إجارة قبل التعليم ، والله أعلم.
(فصل) ينبغي أن يحافظ على تلاوته وكثر منها ، وكان السلف رضي الله عنهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه ، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة ، وعن بعضهم في كل شهر ختمة ، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة ، وعن بعضهم في كل ثمان ليال ، وعن الأكثرين في كل سبع ليال ، وعن بعضهم في كل ست ، وعن بعضهم في كل خمس ، وعن بعضهم في كل أربع ، وعن كثيرين في كل ليال ، وعن بعضهم في كل ليلتين ، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة ، ومنهم من كان يختم ثلاثا ، وختم بعضهم ثمان ختمات أربعا بالليل وأربعا بالنهار ، فمن الذين كانوا يختمون ختمة في الليل واليوم عثمان بن عفان رضي الله عنه و تميم الداري و سعيد بن جبير و مجاهد و الشافعي وآخرين ، ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات سليم بن عمر رضي الله عنه قاضي مصر في خلافة معاوية رضي الله عنه. وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات. وروى أبو عمر الكندي في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات. قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: كان ابن الكتاب رضي الله عنه يختم بالنهار أربع ختمات وبالليل أربع ختمات ، وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة. وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زادان من عباد التابعين رضي الله عنه أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ، ويختمه أيضا فيما بين المغرب والعشاء في رمضان ختمتين وسيأتي ، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل. وروى أبو داود بإسناده الصحيح أن مجاهدا كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء. وعن منصور قال: كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان. وعن إبراهيم بن سعد قال: كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن. وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم ، فمن المتقدمين عثمان بن عفان و تميم الداري و سعيد بن جبير رضي الله عنهم ختمة في كل ليلة في الكعبة. وأما الذين ختموا في الأسبوع مرة فكثيرون نقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و أبي بن كعب رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين ك عبد الرحمن بن يزيد و علقمة و إبراهيم رحمهم الله ، والإختبار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه ، وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة ، وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في يوم وليلة ، ويدل عليه الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث رواه أبو داود و الترمذي و النسائي وغيرهم. قال الترمذي حديث حسن صحيح والله أعلم. وأما وقت الابتداء والختم لمن يختم في الأسبوع ، فقد روى أبو داود أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يفتتح القرآن ليلة الجمعة ويختمه ليلة الخميس. وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء: الأفضل أن يختم ختمة بالليل وأخرى بالنهار ، ويجعل ختمة النهار يوم الإثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما ، ويجعل ختمة الليل ليلة الجمعة في ركعتي المغرب أو بعدهما ليستقبل أول النهار وآخره. وروى ابن أبي داود عن عمر بن مرة التابعي قال: كانوا يحبون أن يختم القرآن من أول الليل أو من أول النهار ، وع ، طلحة بن مصرف التابعي الجليل قال: من ختم القرآن أية ساعة كانت من النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي ، وأية ساعة كانت من الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح. وعن مجاهد مثله. وروى الدارمي في مسنده بإسناده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إذا وافق ختم القرآن أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح ، وإذا وافق ختمه آخر الليل صلت عليه الملائكة حتى يمسي. قال الدارمي: هذا حسن من سعد ، وعن حبيب بن أبي ثابت التابعي: أنه كان يختم قبل الركوع. قال ابن أبي داود: وكذا قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. وفي هذا الفصل بقايا ستأتي إن شاء الله تعالى في الباب الآتي. (فصل: في المحافظة على القراءة بالليل) ينبغي أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في الليل أكثر. قال الله تعالى: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين}. وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال نعم الرجل عبد الله لوم كان يصلي من الليل وفي الحديث الآخر من الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل ثم تركه وروى الطبراني وغيره عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شرف المؤمن قيام الليل والأحاديث والآثار في هذا كثيرة ، وقد جاء عن أبي الأحوص الحبشي قال: إن كان الرجل ليطرق الفسطاط طروقا: أي يأتيه ليلا فيسمع لأهله دويا كدوي النحل ، قال فما بال هؤلاء يأمنون ما كان أولئك يخافون ؟. وعن إبراهيم النخعي كان يقول: اقرأوا من الليل ولو حلب شاة. وعن يزيد الرقاشي قال: إذا أنا نمت ، ثم استيقظت ثم نمت فلا نامت عيناي. قلت: وإنما رجحت صلاة الليل وقراءته لكونها أجمع للقلب ، وأبعد عن الشاغلات والملهيات والتصرف في الحاجات ، وأصون عن الرياء وغيره من المحبطات مع ما جاء الشرع به من إيجاد الخيرات في الليل. فإن الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلا ، وحديث ينزل ربكم كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل فيقول: هل من داع فأستجيب له الحديث. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الليل ساعة يستجيب الله فيها الدعاء كل ليلة وروى صاحب بهجة الأسرار بإسناده عن سليمان الأنماطي قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يقول: لولا الذين ل